المرأة والدماء الثلاثة .. قراءة علمية في مسائل الأسرة
نضير الخزرجي*
لم يتعرض مخلوق على وجه الأرض للظلم، مثلما تعرضت اليه المرأة، استغلوا رقتها وعاطفتها وبنيتها التكوينية، ليسوقها الرجل بمزاجه كيفما يشاء لا كما شاء خالقها بوصفها النصف الأساس في قوامة الحياة الإنسانية، فالرجال من غير النساء أعجاز نخل خاوية، والنساء من غير الرجال ثمار يطول قطافها أو يستحيل، فتموت في أغصانها أو تتساقط ميتة، فلا الرجال بغناء عن النساء، ولا البشرية تجري أشرعتها في بحر الحياة من غير رياح النساء، فكلٌ خلق الله له.
واجتهد البعض، ممن لا زال يحبو في طريق الفقه، ليضع الحواجز أمام حركة المرأة في عالم الدنيا، حتى منع عنها العلم والتعلم تحت يافطات أقل ما يقال عنها، أنها لا تنسجم مع دعوات الإسلام المستفيضة في ضرورة التعلم وعدم قصرها على الرجال، ويحتفظ أرشيف السيرة، بصور رائعة عن قيام المرأة ليس بتعلم عموم العلم فحسب، بل السؤال من قادة المسلمين عن مسائل تتعلق بخصوصيات المرأة نفسها، كالحيض والنفاس.
والكتاب الذي بين أيدينا والذي يحمل عنوان "المرأة والدماء الثلاثة" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي، والصادر حديثا في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 180 صفحة من القطع المتوسط، يبحث بأسلوب علمي فقهي لم يسبقه اليه احد من الفقهاء، مسائل الحيض والنفاس والاستحاضة، معتمدا على رسوم وبيانات تضع المسائل الفقهية الخاصة بالدماء الثلاثة، في قالب حسابي واضح يسهل للمرأة بيان ومعرفة ما يعتريها أثناء الحالات الثلاث، والموقف الشرعي والعملي والعبادي من كل حالة.
وفي تقديري إن الكتاب، الذي قدّم له القاضي الباكستاني، آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، يشكل فتحا فقهيا، وإضافة متميزة الى عالم المصنفات الفقهية الخاصة بشؤون المرأة، ويشكل مادة دراسية في مجال فقه الأسرة، تلقى على طلبة العلوم الدينية في الحوزات العلمية وتدرس في كليات الشريعة، للأسلوب العصري الذي اعتمده المصنف في عرض المسائل الفقهية.
وحتى يأخذ الكتاب ما يلزمه من بعد علمي طبي، بلحاظ صلة موضوع البحث بالجانب الصحي والطبي للمرأة كبنت وكأم مرضعة، فانه استهل بمقدمة طبية للناشطة الاجتماعية العراقية، الدكتورة بيان الأعرجي، شرحت وبأسلوب علمي وفسيولوجي، كيفية وقوع الحالات الثلاثة للدماء التي تظهر عند المرأة منذ طمثها (العادة الشهرية) حتى يأسها (انقطاع الدورة)، ودم النفاس الذي يظهر مع كل ولادة، والآثار الطبية والنفسية المترتبة على كل حالة، فالحيض أو الطمث يحصل مع: "انخفاض وارتفاع مستوى المواد الكيمياوية في الدم عند الأنثى والتي تعرف بـ (الهرمونات) خلال الشهر هي التي تعمل على حدوث الدورة الشهرية" وهذه الهورمونات تفرزها غدة (الثايرون)، فإذا وجدت البويضة الحيمن المخلّق للرجل، تلقّحت فصار الجنين، وانقطع دم الحيض طيلة فترة الحمل، في الأعم الغالب، ويعود الدم مع الولادة فيسمى دم النفاس، وإذا لم يحصل الحمل، كأن تكون البنت باكرا، أو ان الزوجين امتنعا عن الإنجاب، أو لم يكن الحيمن مخلّقا قابلا على تلقيح البويضة، سقطت البويضة على شكل دم وهو ما يسمى بالعادة الشهرية، وقد تزداد أيام الدورة الشهرية على غير العادة، فيحصل الاستحاضة، وقد تحصل الاستحاضة لأسباب كثيرة، ولكنها في الغالب تشكل حالة مرضية، بحاجة الى مراجعة الطبيب، على خلاف الحيض والنفاس اللتان تشكلان وضعا صحيا طبيعيا للمرأة.
وأشادت الناشطة والطبيبة الدكتور بيان الأعرجي، في نهاية المقدمة الطبية المستفيضة: "بما كتبه سماحة الشيخ الكرباسي حول هذا الموضوع الشائك الذي يبين فيه مختلف المسائل الفقهية وبأسلوب حديث لتسهيل الأمر على المؤمنات اللاتي يردن معرفة ما فرضه الله عليهن".
يستهل المصنف الكتاب وتحت عنوان (الحيض ظاهرة صحية) بالحديث عن مفهوم العادة الشهرية، وفقا لقوله تعالى: (ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) البقرة: 222، مشيرا الى الجوانب الصحية الناشئة عن الدورة، باعتبار أن الدورة عملية فسيولوجية طبيعية دالة على سلامة الجسم وأجهزته المودعة فيه، وكون الحيض على علاقة مباشرة بالإخصاب والإنجاب، فلا حمل لمن ليس لها حيض إن كانت صغيرة أو يائسة، والدورة الشهرية رغم الآلام التي تصاحب المرأة، لكنها في الوقت نفسه عادة لا بد منها لاستمرار التناسل، ثم إن: "دم الحيض هو حالة صحية ضرورية للأنثى يهيئ الرحم للإخصاب والحمل، ويتحول الى مادة مغذية للجنين أيام الحمل، وذلك عبر الدم الذي يصل اليه من خلال الحبل السري، ويهيئ الغذاء الأنسب الذي يتلاءم مع حالة الجنين في مراحله المختلفة".
وتحت عنوان (كيف يحدث الحيض؟)، يتطرق المصنف وبناءا على ما رشح من العلم الحديث في مجال الطب، الى المراحل التي تمر بها الدورة الشهرية، وهي مرحلة النمو ومرحلة الإفراز، وأخيرا مرحلة الطمث، مع بيان خصوصيات دم الحيض في عنوان مستقل.
وتحت عنوان (الرحم أثناء الحيض)، يتحدث المصنف وبإسهاب، وبناءا على أرقام طبية حديثة، الى التحولات التي تطرأ على رحم المرأة باطنا وظاهرا، والتي تصاحب الدورة الشهرية وقبلها وبعدها، وينتهي القارئ وفقا للمعلومات التي أوردها المصنف، الى معرفة العلة التي تقف وراء الحظر الذي فرضه الإسلام على حريم الزوجية يمنع بموجبه الرجل من الاقتراب جنسيا مع زوجته أثناء الدورة الشهرية، إذ يكون الضرر مزدوجا على المرأة وبعلها، كما نفهم علة إسقاط التكاليف الشرعية وبطلان تحقق طلاق الزوجة أثناء الدورة الشهرية.
وتحت عنوان (دم النفاس) يتحدث المصنف عن الدم الثاني الذي تراه المرأة في حياتها، وهو دم النفاس الذي يبدأ بالخروج مع بداية الولادة، وخروجه يشكل علامة صحة للأم ورضيعها، ويندر عدم الخروج، والرضاعة الطبيعة التي تصاحب الساعات الأولى لخروج الجنين تشكل مرحلة هامة في حياة الجنين، كما إنها تمنع في معظم الأحيان من تواصل الدورة الشهرية، مما يجعل الحمل أمرا مستبعدا، ما يعتبر فترة استراحة للمرأة، كما إن الرضاعة بحد ذاتها تشكل عامل صحة لرحم المرأة، ذلك: "إن الرحم يعود الى وضعه وحجمه الطبيعي بسرعة أثناء الرضاع، وذلك لان امتصاص الثدي يؤدي الى إفراز هرمون من الغدة النخامية يدعى الاوكسيتوسين الذي بدوره يؤدى الى انقباض الرحم وعودته الى حالته الطبيعية".
وبعد هذه العناوين، التي تعتبر مقدمة الى صلب الموضوع وهو الحيض والنفاس والاستحاضة، يفصل المصنف القول في الدورة الشهرية، شارحا صفات دم الحيض وشروطه، مع رسوم بيانية توضيحية، وبيان أصناف النساء بلحاظ نوع الدورة الشهرية، وطرق إثبات الدورة الشهرية، وما يسقط عن المرأة الحائض من تكاليف شرعية مثل الصلاة، وما يحرم عليها الإتيان به مثل الصوم حتى ولو كان من باب الاستحباب، وبيان ما يجب على المرأة الإتيان به بعد انقطاع الدورة الشهرية.
ويستفيض المصنف، في بيان كل نوع من أنواع العادة الشهرية، من مبتدئة التي ترى الدم لأول مرة، والمرأة ذات العادة الوقتية والعددية التي تنتظم لديها الدورة الشهرية بالتاريخ وعدد الأيام، والمرأة ذات العادة الوقتية فقط، التي تنتظم لديها الدورة بتاريخ محدد دون عدد الأيام، والمرأة ذات العادة العددية فقط والتي تنتظم لديها الدورة بعدد الأيام دون التاريخ، والمرأة الناسية للعادة التي لم تعد تذكر تاريخ وعدد أيام الدورة، والمرأة المضطربة التي فقدت الانتظام في تاريخ الدورة الشهرية وعدد أيامها. ويدعم هذه الأصناف برسوم بيانية وتوضيحية تجعل المرأة على بينة من أمرها، وتخرج المسائل الشرعية من جمودها ورتابتها، وتضع طالب العلم على الطريق السلس لمعرفة المسائل الفقهية الخاصة بالمرأة.
وعند الانتهاء من بيان المسائل الفقهية والتكاليف الشرعية قبل الدورة الشهرية وبعدها وخلالها، وما يكره على الحائض الإتيان به وما يستحب، يفصّل المصنف القول في بيان النفاس وصفاته وشروطه، وما يسقط على النفساء من تكاليف شرعية التي هي تماما كتروك المرأة الحائض، وبيان ما بعد انقطاع الدم واحتمالات النفس والمسائل الفقهية الخاصة بالنفساء، مسددا كل ذلك برسوم بيانية توضيحية.
وعند الانتهاء من الحديث عن الدورة الشهرية، يتطرق المصنف الى (الاستحاضة) وهو الدم الثالث الذي تراه المرأة، وغالبا ما يكون عن حالة مرضية، ويفصّل القول في صفات الاستحاضة وشروطها وطريقة إثباتها وأقسامها من قليلة ومتوسطة وكثيرة، مع بيان أحكام كل حالة، فضلا عن شرح مختصر لغير هذه الدماء الثلاثة، وهي دم القروح والجروح ودم البكارة.
وحتى يكون البحث متكاملا مستوفيا لأغراضه، فان المصنف أورد 156 حديثا من أحاديث النبي محمد (ص) وأهل بيته الكرام (ع) تتعاطى مع الموضوع برمته، مع توضيح لعدد منها، وهذه الأحاديث تشكل مادة دسمة لطالب العلم، لإرجاع كل مسألة فقهية الى ما يوافقها من الروايات.