على هامش أحد الملتقيات التاريخية التي عقدت في الجزائر في العقد الثاني بعد الإستقلال سنة 1962 ، أبى بعض المفكرين الجزائرين القيام بتنظيف التاريخ الثوري الجزائري خاصة ، و العربي و الإسلامي عامة و مراجعته و تدوينه من جديد ، و تصفيته من جميع ما علق به عن روية للحد من كل أنواع التزييف الإستعماري الذي كان ينظر له على أنه بذرة إستطانية أبتكرت حديثا بصفة إرتجالية و كإجراء مضاد سريع للإبقاء على جذور الإستعمار داخل جسد الأمم ، و أيضا جاء هذا التفكير في تدوين التاريخ للإستفادة من تجاربه في بناء حاضرنا و مستقبلنا في الجزائر و المغرب العربي الكبير و العالم الإسلامي الأوسع .
ولبدأ مرحلة جديدة متجددة كدولة في طريقها للنمو صورتها طبق الأصل لجميع الدول العربية المستقلة حديثا كان يجب تحديد معالم الهوية الحقيقة للشعوب الثائرة من أجل الحرية و الشعوب التي مازالت محتلة و لم تجد الطريق الأنسب لتصفية إستعمار بعض الدول التي أبت أن تواصل إستعبادها للبشر بوضع العالم أمام الأمر الواقع و رفض التراجع عن أساليبها التقليدية القديمة و الإنتقال لطرق تبدو أكثر حضارة لإستعباد الدول على غرار العديد من القوى الإستعمارية السابقة ..
من أجل هذا و ذاك قرر بعض المفكرين الجزائرين بعد إجتماعهم المنعقد سنة 1971 في ولاية وهران غرب العاصمة الجزائر اللجوء لوجدان الإنسان و تقليدا لسيرة أسيادنا عليهم السلام و رضوان الله و تكريسا لمبدأ إخلاصهم للثقافة العربية الأصيلة التي درسوها ودرّسوها تحت وطأة الإستعمار الرافض بقوة السلاح لهذه المقومات ، و في سابقة تاريخية و بادرة يشكرون عليها عرضوا الفكرة على المناظل الكبير ، الشاعر الملهم ، شاعر الكفاح الثوري السياسي ، و شاعر الكفاح الثوري المسلح ، المجاهد ، الأستاذ مفدي زكريا ، صاحب الأناشيد الوطنية <من جبالنا طلع صوت الأحرار> سنة 1932 ، و <فداء الجزائر روحي و مالي> سنة 1936 ، والنشيد الرسمي للجزائر <قسما> سنة 1955 ، و <أعصفي يا رياح> و نشيد جيش التحرير الوطني ، و نشيد العمال ، و نشيد الطلبة ، و اللهيب المقدس ... ( معظم هذه الناشيد كتب كلماتها في سجن الإستعمار) طلبوا من هذا "الرجل" أن يقوم بلم تاريخه الشعري و الثوري معا و كتابة نشيدا جديدا يجمع فيه جمال روائعه السابقة و يشمل تاريخ الجزائر من أقدم عصورها حتى اليوم ، مركزا فيه على مقاومتها مختلف الإحتلالات الأجنبية ، و على العهود الحضارية الزاهرة المتعاقبة ، و أيضا حاضر الجزائر آنذاك و مستقبلها في كفاحها لإسترداد جميع ثرواتها و مقوماتها و شخصيتها و حصانتها -لأن في ذلك الوقت كان المجتمع الجزائري لا يزال يتنفس جرثوم الإستعمار الفرنسي لتشبثه في مختلف أجهزة الدولة الحساسة- ، و كل هذا من أجل بناء مجد جديد لجزء من أمتنا و لحفر صورة بشاعة الإستعمار في ذاكرة أجيالنا و لفضحها أمام العالم الذي كان يعاني من حساسية هذا الموضوع للإنتشار الكبير للمد التحرري و وعي الشعوب و تكريس مبدأ بدأ تكرس في تلك الفترة و هو مبدأ تقرير مصير الشعوب .
و فعلا قبل مفدي زكريا العرض على أن يساعده صاحبا الفكرة الرئيسيين و لا مانع لذكر أسمائهما : عثمان الكعاك و مولود قاسم نايت بلقاسم ، هذان الرجلان كانا بمعية مفدي زكريا أجزاء مكملة لبعضها البعض بتواصلهم و تعاونهم على صنع التاريخ من جديد ، بدأوا العمل بوضع المقاطع التاريخية و كانوا يتهاتفون ليلا –خاصة- و يعود الهتاف الليلي لمفدي الذي يكون في تلك الأثناء ينظم الأبيات ، و عندما يتوقف عند نقطة تاريخية ما ، و يريد التأكد و الإطمئنان عليها ، يهتف من الرباط(المغرب) -حيث كان مديرا لجامعة شعبية- لأحد خلاّنه في هذا الكفاح (مولود قاسم في الجزائر و عثمان الكعاك في تونس) .. فضلا عن الجهود المعتبرة للخطاط الأستاذ عبد المجيد غالب الذي كان يتلقى صفوة العمل أولا بأول لحفر بها مسامات قرطاسه مشيدا بذلك جهد الجميع ... هكذا كان الحوار الثلاثي الليلي عن تاريخ الجزائر.. بالذات ..و بصفة أخص ، و عن التاريخ المغربي عموما ، و عن التاريخ الإسلامي بصفة أعم بين هذه العواصم المغربية الثلاثة لتستقر النتيجة ، و تتركز ، و تسجل ، و تخلد في العاصمة الجزائر مقر الملتقى السادس للفكر الإسلامي الذي أعتبر نقطة إرتكاز و المنطلق لتشع منه جهود المثلث المغاربي المتمثل في الرجال الثلاثة لجموع الشعوب المغاربية و الأمة الإسلامية ، و لتخلد خلود الإنسان .
و هكذا نشأت "" إلياذة الجزائر"" إذن ، و نمت و ترعرعت و وصلت في ظرف بضعة أشهر إلى 910 أبيات رتلها أو بالأحرى أنشدها مفدي بصوته الأجج و نبراته الحادة و سخرياته المعتادة و إنفعاله الثوري في إفتتاح المتلقى السادس للفكر الإسلامي في قصر الأمم يوم 13 جمادى التانية 1392ه الموافق ل 24 يوليو 1973م أمام أكثر من ألف طالب من القارات الخمس بحضور رمز من رموز الجزائر الحديثة الرئيس هواري بومدين ، الذي إستقبل مفديا في مكتبه بالرئاسة إستقبال الأبطال إثر إختتام الملتقى و عبر له عن كل إعجابه بالأثر الخالد الباقي .
بعد ذلك واصلت الإلياذة مسيرتها بروح ناظمها إلى أن بلغت الواحد بعد الألف بيت (1001) أو الألف يوم و يوما من الأيام الخالدة ، في تاريخ هذه الامة الخالدة و الخلود لله ، -و العرب كانت تسمي التاريخ "الأيام" -
و بالفعل لقد كان للتاريخ نكهة سحرية يسهل على الجميع حفظه و قراءته و تعليمه منذ تجسيد إلياذة الجزائر واقعا ملموسا ، فقد إعتمد مفدي تقسيم الإلياذة إلى جزئين ، قسم الجمال و الذي يصور فيه الجمال الطبيعي للبلاد ، و قسم الجلال ، أي المجد التاريخي ، مع تداخل القسمان معا أحيانا ، لذلك اعتبرت الإلياذة أحسن سجل لتاريخ الجزائر حتى اليوم و إذا ما كتب هذا التاريخ يوما ما بصفة كاملة و شاملة ، فستبقى إلياذة الجزائر أروع تاريخ للجزائر و أكثره وقعا في النفوس و أسهله حفظا و تذكرا ، لذلك يطيب لي ولكل من يرى في هذا الرجل صورة للرجولة الحقة أن أقول : رحمك الله يا مفدي و أسكنك فسيح جنانه فأثرك الباقي هذا كالصدقة الجارية تغنيك عن كل الدنيا لتقابل وجه الله بكل الرضى ، صحيح أنت لم تمت شهيدا في ساحات الفدى لكنك فعلتها و أستشهدت بين سطور .......... ""إلياذة الجزائر"
...هذه بعض المقاطع المتفرقة من الإلياذة كما جاءت في مقدمة كتاب إلياذة الجزائر و كما إستقيت هذه الأسطر ، طبعا على أن أكتبها كلها و على مراحل .
و للملاحظة فقط إلياذة الجزائر تتكون من مقاطع صغيرة وراء بعض لا يفصلها شيء عن بعضها سوى "لازمة" ، كل مقطع بعشر أبيات إلا مقطع واحد و ذلك عن قصد و عندما نصل إلى هذا المقطع سأوضح ذلك ..
بدأها مفدي هكذا :
جزائر يا مطلع المعجزات و يا حجة الله في الكائنات
..
...
جزائر يا بدعة الفاطـــــر و يا روعة الصانع القـــــــادر
و يا بابل السحر ، و من وحيها تلقب هاروت بالســـــاحر
...
..
و أوقفت ركب الزمان طويلا أُسائله : عن ثمود... وعاد...
و عن قصة المجد ... من عهد نوح وهل إرم ... هي ذات العماد؟
فأقسم هذا الزمان يمينا و قال : الجزائر .. دون عنـــــاد
..
....
وطالت خرافات حرب الكلام و ما بلغ الشعب فيه المرام
فآمن بالنار من عرفوها و من كاشفتهم بسر النظام (1)
*(1)إشارة إلى منظمة الإجرام " أو أس" المنشأة عام 1947 كإجراء تعسفي ضد غضب الشعب الجزائري تباعا لما جاء في السنوات الأخيرة و منها أحداث 8 ماي 1945 أين كانت فرنسا قد وعدت الجزائر بالحرية إذا ما ساعدها شعبها في مكافحة النازية ، و طبعا أخلفت فرنسا بوعدها مما أدى إلى مسيرات في كامل أرجاء البلاد قابلتها فرنسا بحنية فائقة و بعقل يعبر عن مدى حضارة فرنسا ... الحصيلة 45000 شهيد في يوم واحد (45 ألف في يوم واحد :mad: )
نوفمبر جل جلالك فينا ألست الذي بث فينا اليقينا ؟
* نوفمبر هو الشهر الذي إندلعت فيه الثورة الجزائرية عام 1954
...
جمعنا لحرب الخلاص شتاتا سلكنا به المنهج المستبينا
و لولا إلتحام الصفوف وقانـــا لكنا سماسرة مجرمينـــــــا(2)
*(2) إشارة إلى جبهة التحرير الوطني التي ضمت جميع الحركات الوطنية يمختلف آرائها في طرق الكفاح في حركة واحدة مسلحة قادت الجهاد حتى إسترجاع السيادة و الإستقلال ، و نصيحة للإخوان الفلسطينيين بتحقيق مثل هذا الإنصهار الذي يعتبر الحل الوحيد لمكافحة الإحتلال بجسد واحد قوي برأيه و إصراره .
فليت فلسطين ... تقفو خطانا و تطوى-كما قد طوينا- السنينا
و بالقدس تهتم .. لا بالكراسي تميل يسارا بها و يمينا ...
....
........
بلادي ، بلادي ، الأمان الأمان أغني علاك ، بأي لسان ؟
جلالك تقصر عنه اللغـــى و يعجزني فيك سحر البيان
إليك صلاتي ، و أزكى سلامي بلادي ، بلادي ، الأمان لأمان
شغلنا الورى ،و ملأنا الدنا
بشعر نرتلـــه كالصــــــلاة
تسابيحه من حنايـا الجزائر
محترمكم نزار:rolleyes:
--------------------------------------------------------------------------------
nizar09-01-2002, 01:42
إلياذة الجزائر
جزائر يا مطلع المعجــــــــــزات و با حجة الله في الكائنـــــات
و يابسمة الرب في أرضــــــــه و يا وجهه الضاحك القسمات
و يا لوحة في سجل الخلــــــو د تموج بها الصور الحالمـــــات
و يا قصة بث فيها الوجــــــــود معاني السمة بروع الحيـــاة
و يا صفحة خط فيها البقــــــــآ بنار و نور جهاد الأبــــــــــــاة
و يا للبطولات تغزو الدنـــــــــــا و تلهمها القيم الخالـــــــدات
و أسطورة رددتها القـــــــــرون فهاجت بأعماقنا الذكريــــات
و يا تربة تاه فيها الجــــــــــلال فتاهت بها القمم الشامخات
و ألقى التهاية فيها الجمـــــال فهمنا بأسرارها الفاتنـــــــات
و أهوى على قدميها الزمــــان فأهوى على قدميها الطفـاة
اللازمــــــــة
شغلنا الورَى ، و ملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصٌــــــــــلاة
تسابيحه من حنايا الجزائر
جزائر يا بدعة الفاطــــــــــــــر و يا روعة الصانع القـــــــــادر
و يا بابل السحر ، من وحيهـا تلقب هاروت بالساحــــــــــر
و يا جنة غار منها الجنـــــــان و أشغله الغيب بالحاضـــــــر
و يا لجة يستحم الجمــــــــــا ل و يسبح في موجها الكافر (1)
و يا ومضة الحب في خاطري و إشراقة الوحي للشاعـــــر
و يا ثورة حار فيها الزمـــــــان و في شعبها الهادئ الثائـــر
و يا وحدة صهرتها الخطــــــو ب فقامت على دمها الفائـــر
و يا همة ساد فيها الحجــى فلم تك تقنع بالظاهـــــــــــــر
و يا مثلاً لصفاء الضميــــــــــر يجل عن المثل السٌائـــــــــــر
سلام على مهرجان الخلــود سلام على عيدك العاشـــــر(2)
شغلنا الورَى ، و ملأنا الدنا
بشعر نرتله كالصٌــــــــــلاة
تسَابيحه من حَنايَا الجزائر
(1) الكافر هنا بمعنى الساتر و منه قوله تعالى" يعجب الزراع ليغيط بهم الكفار" و قول إمام العاشقين عمر بن الفارض يخاطب الحبيب و الليل :
لي فيك أجر مجاهــــــــــــد ان صح أن الليل كافــــــــــــر